كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا} ثُمَّ قَالَ: {وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ} (33: 72) الْأَمَانَةُ هِيَ عَهْدٌ وَمِيثَاقٌ. فَامْتِنَاعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ مِنْ حَمْلِ الْأَمَانَةِ خُلُوُّهَا مِنَ الْعَقْلِ الَّذِي يَكُونُ بِهِ الْفَهْمُ وَالْإِفْهَامُ، وَحَمْلُ الْإِنْسَانِ إِيَّاهَا لِمَكَانِ الْعَقْلِ فِيهِ. قَالَ: وَلِلْعَرَبِ فِيهَا ضُرُوبُ نَظْمٍ فَمِنْهَا قَوْلُهُ:
ضَمِنَ الْقَنَانُ لِفَقْعَسٍ بِثَبَاتِهَا ** إِنَّ الْقَنَانَ لِفَقْعَسٍ لَا يَأْتَلِي

وَالْقَنَانُ: جَبَلٌ، فَذَكَرَ أَنَّهُ قَدْ ضَمِنَ لِفَقْعَسٍ وَضَمَانُهُ لَهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا حَزَبَهُمْ أَمْرٌ مِنْ هَزِيمَةٍ أَوْ خَوْفٍ لَجَئُوا إِلَيْهِ فَجَعَلَ ذَلِكَ كَالضَّمَانِ لَهُمْ، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّابِغَةِ:
كَأَجَارِفِ الْجُولَانِ هَلَّلَ رَبَّهُ ** وَجُورَانُ مِنْهَا خَاشِعٌ مُتَضَائِلُ

وَأَجَارِفُ الْجَوَلَانِ جِبَالُهَا، وَجُورَانُ الْأَرْضُ الَّتِي إِلَى جَانِبِهَا. وَقَالَ هَذَا الْقَائِلُ إِنَّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ} دَلِيلًا عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ؛ لِأَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمَ أَنَّ هَذَا الْأَخْذَ لِلْعَهْدِ عَلَيْهِمْ لِئَلَّا يَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ {إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ}، وَالْغَفْلَةُ هَاهُنَا لَا تَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ:
إِمَّا أَنْ تَكُونَ عَنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، أَوْ عَنْ أَخْذِ الْمِيثَاقِ. فَأَمَّا يَوْمُ الْقِيَامَةِ فَلَمْ يَذْكُرْ سُبْحَانَهُ فِي كِتَابِهِ أَنَّهُ أَخَذَ عَلَيْهِمْ عَهْدًا وَمِيثَاقًا بِمَعْرِفَةِ الْبَعْثِ وَالْحِسَابِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ مَعْرِفَتَهُ فَقَطْ، وَأَمَّا أَخْذُ الْمِيثَاقِ فَالْأَطْفَالُ، وَالْأَسْقَاطُ إِنْ كَانَ هَذَا الْعَهْدُ مَأْخُوذًا عَلَيْهِمْ- كَمَا قَالَ الْمُخَالِفُ- فَهُمْ لَمْ يَبْلُغُوا بَعْدَمَا أَخَذَ هَذَا الْمِيثَاقَ عَلَيْهِمْ مُبْلَغًا يَكُونُ مِنْهُمْ غَفْلَةٌ عَنْهُ فَيَجْحَدُونَهُ وَيُنْكِرُونَهُ، فَمَتَى تَكُونُ هَذِهِ الْغَفْلَةُ مِنْهُمْ، وَهُوَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ؟ وَذِكْرُ مَا لَا يَجُوزُ وَلَا يَكُونُ مُحَالٌ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ} فَلَا يَخْلُو هَذَا الشِّرْكُ الَّذِي يُؤَاخِذُونَ بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ أَوْ مِنْ آبَائِهِمْ، فَإِنْ كَانَ مِنْهُمْ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ إِلَّا بَعْدَ الْبُلُوغِ، وَثُبُوتِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ إِذِ الطِّفْلُ لَا يَكُونُ مِنْهُ شِرْكٌ وَلَا غَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِهِمْ فَالْأُمَّةُ مُجْمِعَةٌ عَلَى {أَلَّا تَزِرَ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْكِتَابِ، وَلَيْسَ هَذَا بِمُخَالِفٍ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللهَ مَسَحَ ظَهْرَ آدَمَ وَأَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّتَهُ فَأَخَذَ عَلَيْهِمُ الْعَهْدَ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم اقْتَصَّ قَوْلَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فَجَاءَ مِثْلَ نَظْمِهِ فَوَضَعَ الْمَاضِي مِنَ اللَّفْظِ مَوْضِعَ الْمُسْتَقْبَلِ، قَالَ: وَهَذَا شَبِيهٌ بِقِصَّةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ} (3: 81) فَجَعَلَ سُبْحَانَهُ مَا أَنْزَلَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ مِيثَاقًا أَخَذَهُ مِنْ أُمَمِهِمْ بَعْدَهُمْ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} (3: 81) ثُمَّ قَالَ لِلْأُمَمِ: {أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} (3: 81) فَجَعَلَ سُبْحَانَهُ بُلُوغَ الْأُمَمِ كِتَابُهُ الْمُنَزَّلُ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ حُجَّةً عَلَيْهِمْ كَأَخْذِ الْمِيثَاقِ عَلَيْهِمْ، وَجَعَلَ مَعْرِفَتَهُمْ بِهِ إِقْرَارًا مِنْهُمْ. قُلْتُ: وَشَبِيهٌ بِهِ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} (5: 7) فَهَذَا مِيثَاقُهُ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَيْهِمْ بَعْدَ إِرْسَالِ رُسُلِهِ إِلَيْهِمْ بِالْإِيمَانِ بِهِ وَتَصْدِيقِهِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ} (13: 20) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَلَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} (36: 60، 61) فَهَذَا عَهْدُهُ إِلَيْهِمْ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} (2: 40) وَمِثْلُهُ: {وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} (3: 187) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} (33: 7) فَهَذَا مِيثَاقٌ أَخَذَهُ مِنْهُمْ بَعْدَ بَعْثِهِمْ، كَمَا أَخَذَ مِنْ أُمَمِهِمْ بَعْدَ إِنْذَارِهِمْ، وَهَذَا الْمِيثَاقُ الَّذِي لَعَنَ سُبْحَانَهُ مَنْ نَقْضَهُ وَعَاقَبَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} (5: 13) فَإِنَّمَا عَاقَبَهُمْ بِنَقْضِهِمُ الْمِيثَاقَ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَيْهِمْ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (2: 63) وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَنَظِيرُهَا فِي سُورَةٍ مَدَنِيَّةٍ خَاطَبَ بِالتَّذْكِيرِ بِهَذَا الْمِيثَاقِ فِيهَا أَهْلَ الْكِتَابِ فَإِنَّهُ مِيثَاقٌ أَخَذَهُ عَلَيْهِمْ بِالْإِيمَانِ بِهِ وَبِرُسُلِهِ، وَلَمَّا كَانَتْ آيَةُ الْأَعْرَافِ هَذِهِ فِي سُورَةٍ مَكِّيَّةٍ ذَكَرَ فِيهَا الْمِيثَاقَ وَالْإِشْهَادَ الْعَامَّ لِجَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ مِمَّنْ أَقَرُّوا بِرُبُوبِيَّتِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ وَبُطْلَانِ الشِّرْكِ، وَهُوَ مِيثَاقٌ وَإِشْهَادٌ تَقُومُ بِهِ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ، وَيَنْقَطِعُ بِهِ الْعُذْرُ، وَتَحِلُّ بِهِ الْعُقُوبَةُ، وَيَسْتَحَقُّ بِمُخَالَفَتِهِ الْإِهْلَاكُ، فَلابد أَنْ يَكُونُوا ذَاكِرِينَ لَهُ عَارِفِينَ بِهِ، وَذَلِكَ بِمَا فَطَرَهُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْإِقْرَارِ بِرُبُوبِيَّتِهِ، وَأَنَّهُ رَبُّهُمْ وَفَاطِرُهُمْ، وَأَنَّهُمْ مَخْلُوقُونَ مَرْبُوبُونَ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ رُسُلَهُ يُذَكِّرُونَهُمْ بِمَا فِي فِطَرِهِمْ وَعُقُولِهِمْ، وَيُعَرِّفُونَهُمْ حَقَّهُ عَلَيْهِمْ وَأَمْرَهُ وَنَهْيَهُ وَوَعْدَهُ وَوَعِيدَهُ، وَنَظْمُ الْآيَةِ إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ:
(أَحَدُهَا) أَنَّهُ قَالَ: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ وَلَمْ يَقُلْ آدَمَ وَبَنِي آدَمَ.
(الثَّانِي) أَنَّهُ قَالَ: مِنْ ظُهُورِهِمْ وَلَمْ يَقُلْ ظَهْرَهُ، وَهَذَا بَدَلُ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ أَوْ بَدَلُ اشْتِمَالٍ وَهُوَ أَحْسَنُ.
(الثَّالِثُ) أَنَّهُ قال: {ذُرِّيَّتَهُمْ} وَلَمْ يَقُلْ ذُرِّيَّتَهُ.
(الرَّابِعُ) أَنَّهُ قَالَ: وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَيْ: جَعَلَهُمْ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَلابد أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدُ ذَاكِرًا لِمَا شَهِدَ بِهِ، وَهُوَ إِنَّمَا يَذْكُرُ شَهَادَتَهُ بَعْدَ خُرُوجِهِ إِلَى هَذِهِ الدَّارِ لَا يَذْكُرُ شَهَادَةً قَبْلَهَا.
(الْخَامِسُ) أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَخْبَرَ أَنَّ حِكْمَةَ هَذَا الْإِشْهَادِ إِقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ لِئَلَّا يَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ: إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ وَالْحُجَّةُ إِنَّمَا قَامَتْ عَلَيْهِمْ بِالرُّسُلِ وَالْفِطْرَةِ الَّتِي فُطِرُوا عَلَيْهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ (4- 165).
(السَّادِسُ) تَذْكِيرُهُمْ بِذَلِكَ لِئَلَّا يَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ: إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ مَعْلُومٌ أَنَّهُمْ غَافِلُونَ بِالْإِخْرَاجِ لَهُمْ مِنْ صُلْبِ آدَمَ كُلِّهِمْ، وَإِشْهَادِهِمْ جَمِيعًا ذَلِكَ الْوَقْتَ، فَهَذَا لَا يَذْكُرُهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ.
(السَّابِعُ) قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ} فَذَكَرَ حِكْمَتَيْنِ فِي هَذَا التَّعْرِيفِ وَالْإِشْهَادِ:
(إِحْدَاهُمَا) أَلَّا يَدَّعُوا الْغَفْلَةَ.
(وَالثَّانِيَةُ) أَلَّا يَدَّعُوا التَّقْلِيدَ فَالْغَافِلُ لَا شُعُورَ لَهُ، وَالْمُقَلِّدُ مُتَّبِعٌ فِي تَقْلِيدِهِ لِغَيْرِهِ.
(الثَّامِنُ) قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} أَيْ: لَوْ عَذَّبَهُمْ بِجُحُودِهِمْ وَشِرْكِهِمْ لَقَالُوا ذَلِكَ، وَهُوَ سُبْحَانُهُ إِنَّمَا يُهْلِكُهُمْ لِمُخَالَفَةِ رُسُلِهِ، وَتَكْذِيبِهِمْ، فَلَوْ أَهْلَكَهُمْ بِتَقْلِيدِ آبَائِهِمْ فِي شِرْكِهِمْ مِنْ غَيْرِ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِالرُّسُلِ لَأَهْلَكَهُمْ بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ أَوْ أَهْلَكَهُمْ مَعَ غَفْلَتِهِمْ عَنْ مَعْرِفَةِ بَطَلَانِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ، وَقَدْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ، وَإِنَّمَا يُهْلِكُهُمْ بَعْدَ الْإِعْذَارِ وَالْإِنْذَارِ.
(التَّاسِعُ) أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَشْهَدَ كُلَّ وَاحِدٍ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ رَبُّهُ وَخَالِقُهُ وَاحْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِهَذَا الْإِشْهَادِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} (29: 61) أَيْ: فَكَيْفَ يُصْرَفُونَ عَنِ التَّوْحِيدِ بَعْدَ هَذَا الْإِقْرَارِ مِنْهُمْ أَنَّ اللهَ رَبَّهُمْ وَخَالِقَهُمْ، وَهَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ، فَهَذِهِ هِيَ الْحُجَّةُ الَّتِي أَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِمَضْمُونِهَا، وَذَكَّرَتْهُمْ بِهَا رُسُلُهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفِي اللهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (14: 10) فَاللهُ تَعَالَى إِنَّمَا ذَكَّرَهُمْ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ بِهَذَا الْإِقْرَارِ وَالْمَعْرِفَةِ، وَلَمْ يُذَكِّرْهُمْ قَطُّ بِإِقْرَارٍ سَابِقٍ عَلَى إِيجَادِهِمْ وَلَا أَقَامَ بِهِ عَلَيْهِمْ حُجَّةً.
(الْعَاشِرُ) أَنَّهُ جَعَلَ هَذَا آيَةً، وَهِيَ الدَّلَالَةُ الْوَاضِحَةُ الْبَيِّنَةُ الْمُسْتَلْزِمَةُ لِمَدْلُولِهَا بِحَيْثُ لَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا الْمَدْلُولُ، وَهَذَا شَأْنُ آيَاتِ الرَّبِّ تَعَالَى فَإِنَّهَا أَدِلَّةٌ مُعِينَةٌ عَلَى مَطْلُوبٍ مُعَيَّنٍ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلْعِلْمِ بِهِ فَقَالَ تَعَالَى: وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ أَيْ مِثْلُ هَذَا التَّفْصِيلِ وَالتَّبْيِينِ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ مِنَ الشِّرْكِ إِلَى التَّوْحِيدِ، وَمِنَ الْكُفْرِ إِلَى الْإِيمَانِ، وَهَذِهِ الْآيَاتُ الَّتِي فَصَّلَهَا هِيَ الَّتِي بَيَّنَهَا فِي كِتَابِهِ مِنْ أَنْوَاعِ مَخْلُوقَاتِهِ، وَهِيَ آيَاتٌ أُفُقِيَّةٌ وَنَفْسِيَّةٌ، آيَاتٌ فِي نُفُوسِهِمْ وَذَوَاتِهِمْ وَخُلُقِهِمْ، وَآيَاتٌ فِي الْأَقْطَارِ وَالنَّوَاحِي مِمَّا يُحْدِثُهُ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى وُجُودِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ وَصِدْقِ رُسُلِهِ، وَعَلَى الْمَعَادِ وَالْقِيَامَةِ، وَمِنْ أَبْيَنِهَا مَا أَشْهَدَ بِهِ كُلَّ وَاحِدٍ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ أَنَّهُ رَبُّهُ وَخَالِقُهُ وَمُبْدِعُهُ، وَأَنَّهُ مَرْبُوبٌ مَخْلُوقٌ مَصْنُوعٌ حَادِثٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، وَمُحَالٌ أَنْ يَكُونَ حَدَثَ بِلَا مُحْدِثٍ أَوْ يَكُونَ هُوَ الْمُحْدِثُ لِنَفْسِهِ، فَلابد لَهُ مِنْ مُوجِدٍ أَوْجَدَهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، وَهَذَا الْإِقْرَارُ وَالْمُشَاهَدَةُ فِطْرَةٌ فُطِرُوا عَلَيْهَا لَيْسَتْ بِمُكْتَسَبَةٍ، وَهَذِهِ الْآيَةُ وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} مُطَابَقَةٌ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} (30: 30، 31) وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ لَمْ يَذْكُرْ إِلَّا هَذَا الْقَوْلَ فَقَطْ كَالزَّمَخْشَرِيِّ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَذْكُرْ إِلَّا الْقَوْلَ الْأَوَّلَ فَقَطْ. وَمِنْهُمْ مَنْ حَكَى الْقَوْلَيْنِ، كَابْنِ الْجَوْزِيِّ وَالْوَاحِدِيِّ وَالْمَاوَرْدِيِّ وَغَيْرِهِمْ قَالَ الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى الْجُرْجَانِيُّ: فَإِنِ اعْتَرَضَ مُعْتَرِضٌ فِي هَذَا الْفَصْلِ بِحَدِيثٍ يُرْوَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ اللهَ مَسَحَ ظَهْرَ آدَمَ فَأَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّتِهِ وَأَخَذَ عَلَيْهِمُ الْعَهْدَ ثُمَّ رَدَّهُمْ فِي ظَهْرِهِ وَقَالَ إِنَّ هَذَا مَانَعٌ مِنْ جَوَازِ التَّأْوِيلِ الَّذِي ذَهَبْتَ إِلَيْهِ لِامْتِنَاعِ رَدِّهِمْ فِي الظَّهْرِ، إِنْ كَانَ أَخْذُ الْمِيثَاقِ عَلَيْهِمْ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَتَمَامِ الْعَقْلِ قِيلَ لَهُ: إِنَّ مَعْنَى «ثُمَّ رَدَّهُمْ فِي ظَهْرِهِ» ثُمَّ يَرُدُّهُمْ فِي ظَهْرِهِ، كَمَا قُلْنَا إِنَّ مَعْنَى أَخَذَ رَبُّكَ: يَأْخُذُ رَبُّكَ فَيَكُونُ مَعْنَاهُ: ثُمَّ يَرُدُّهُمْ فِي ظَهْرِهِ بِوَفَاتِهِمْ: لِأَنَّهُمْ إِذَا مَاتُوا رُدُّوا إِلَى الْأَرْضِ لِلدَّفْنِ وَآدَمُ خُلِقَ مِنْهَا وَرُدَّ فِيهَا، فَإِذَا رُدُّوا فِيهَا فَقَدْ رُدُّوا فِي آدَمَ، وَفِي ظَهْرِهِ إِذْ كَانَ آدَمُ خُلِقَ مِنْهَا، وَفِيهَا رَدُّ بَعْضِ الشَّيْءِ مِنَ الشَّيْءِ، وَفِيمَا ذَهَبْتُمْ إِلَيْهِ مِنْ تَأْوِيلِ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى ظَاهِرِهِ تَفَاوُتٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ فِي هَذَا الْمَعْنَى، إِلَّا أَنْ يُرَدَّ تَأْوِيلُهُ إِلَى مَا ذَكَرْنَا؛ لِأَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَلَمْ يَذْكُرْ آدَمَ فِي الْقِصَّةِ، إِنَّمَا هُوَ هَاهُنَا مُضَافٌ إِلَيْهِ لِتَعْرِيفِ ذُرِّيَّتِهِ أَنَّهُمْ أَوْلَادُهُ، وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَلَا يُمْكِنُ رَدُّ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ وَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ إِلَى الِاتِّفَاقِ إِلَّا بِالتَّأْوِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، قَالَ الْجُرْجَانِيُّ: وَأَنَا أَقُولُ وَنَحْنُ إِلَى مَا رُوِيَ فِي الْآيَةِ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ أَمِيلُ، وَلَهُ أَقْبَلُ وَبِهِ آنَسُ، وَاللهُ وَلِيُّ التَّوْفِيقِ لِمَا هُوَ أَوْلَى وَأَهْدَى عَلَى أَنَّ بَعْضَ أَصْحَابِنَا مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ قَدْ ذَكَرَ فِي الرَّدِّ عَلَى هَذَا الْقَائِلِ مَعْنًى يُحْتَمَلُ وَيُسَوَّغُ فِي النَّظْمِ الْجَارِي، وَمَجَازِ الْعَرَبِيَّةِ بِسُهُولَةٍ، وَإِمْكَانٍ مِنْ غَيْرِ تَعَسُّفٍ وَلَا اسْتِكْرَاهٍ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ} مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ عَمَّا كَانَ مِنْهُ فِي أَخْذِ الْعَهْدِ عَلَيْهِمْ و{إِذْ} يَقْتَضِي جَوَابًا يَجْعَلُ جَوَابَهُ قَوْلَهُ تَعَالَى: {قَالُوا بَلَى} وَانْقَطَعَ هَذَا الْخَبَرُ بِتَمَامِ قِصَّتِهِ، ثُمَّ ابْتَدَأَ عَزَّ وَجَلَّ خَبَرًا آخَرَ بِذِكْرِ مَا يَقُولُهُ الْمُشْرِكُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَقَالَ: {شَهِدْنَا} يَعْنِي نَشْهَدُ. قَالَ الْحُطَيْئَةُ:
شَهِدَ الْحُطَيْئَةُ حِينَ يَلْقَى رَبَّهُ ** أَنَّ الْوَلِيدَ أَحَقُّ بِالْعُذْرِ

بِمَعْنَى يَشْهَدُ الْحُطَيْئَةُ. يَقُولُ تَعَالَى نَشْهَدُ إِنَّكُمْ سَتَقُولُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: {إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} أَيْ: عَمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الْحِسَابِ وَالْمُنَاقَشَةِ وَالْمُؤَاخَذَةِ بِالْكُفْرِ، ثُمَّ أَضَافَ إِلَيْهِ خَبَرًا آخَرَ فَقَالَ: أَوْ تَقُولُوا بِمَعْنَى: وَأَنْ تَقُولُوا، لِأَنَّ {أَوْ} بِمَعْنَى وَاوِ النَّسَقِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} (76: 24) فَتَأْوِيلُهُ وَنَشْهَدُ أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ: {إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ} أَيْ إِنَّهُمْ: أَشْرَكُوا وَحَمَلُونَا عَلَى مَذْهَبِهِمْ فِي الشِّرْكِ فِي صِبَانَا، فَجَرَيْنَا عَلَى مَذَاهِبِهِمْ، وَاقْتَدَيْنَا بِهِمْ فَلَا ذَنْبَ لَنَا إِذْ كُنَّا مُقْتَدِينَ بِهِمْ، وَالذَّنْبُ فِي ذَلِكَ لَهُمْ {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} (43: 23) يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُمْ: {أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} أَيْ حَمْلُهُمْ إِيَّانَا عَلَى الشِّرْكِ، فَتَكُونُ الْقِصَّةُ الْأَوْلَى خَبَرًا عَنْ جَمِيعِ الْمَخْلُوقِينَ بِأَخْذِ الْمِيثَاقِ عَلَيْهِمْ، وَالْقِصَّةُ الثَّانِيَةُ خَبَرًا عَمَّا يَقُولُ الْمُشْرِكُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الِاعْتِذَارِ، وَقَالَ فِيمَا ادَّعَاهُ الْمُخَالِفُ: إِنَّهُ تَفَاوَتَ فِيمَا بَيْنَ الْكِتَابِ وَالْخَبَرِ، لِاخْتِلَافِ أَلْفَاظِهِمَا فِيهِمَا، قَوْلًا يَجِبُ قَبُولُهُ بِالنَّظَائِرِ وَالْعِبَرِ الَّتِي تُؤَيِّدُ بِهَا مُخَالَفَتَهُ فَقَالَ: إِنَّ الْخَبَرَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ اللهَ مَسَحَ ظَهْرَ آدَمَ أَفَادَ زِيَادَةَ خَبَرِ كَانَ فِي الْقِصَّةِ الَّتِي ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى فِي الْكِتَابِ بَعْضَهَا، وَلَمْ يَذْكُرْ كُلَّهَا، وَلَوْ أَخْبَرَ صلى الله عليه وسلم بِسِوَى هَذِهِ الزِّيَادَةِ الَّتِي أَخْبَرَ بِهَا، فَمَا عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدْ كَانَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الَّذِي أُخِذَ فِيهِ الْعَهْدُ مِمَّا لَمْ يُضَمِّنْهُ اللهُ كِتَابَهُ، لَمَا كَانَ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ وَلَا تَفَاوُتَ، بَلْ كَانَ زِيَادَةً فِي الْفَائِدَةِ، وَكَذَلِكَ الْأَلْفَاظُ إِذَا اخْتَلَفَتْ فِي ذَاتِهَا، وَكَانَ مَرْجِعُهَا إِلَى أَمْرٍ وَاحِدٍ لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ تَنَاقُضًا، كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ فِي خَلْقِ آدَمَ فَذَكَرَ مَرَّةً أَنَّهُ خُلِقَ مِنْ تُرَابٍ، وَمَرَّةً أَنَّهُ خُلِقَ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ، وَمَرَّةً مِنْ طِينٍ لَازِبٍ، وَمَرَّةً مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ، فَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ مُخْتَلِفَةٌ، وَمَعَانِيهَا أَيْضًا فِي الْأَحْوَالِ مُخْتَلِفَةٌ؛ لِأَنَّ الصَّلْصَالَ غَيْرُ الْحَمْأَةِ، وَالْحَمْأَةُ غَيْرُ التُّرَابِ إِلَّا أَنَّ مَرْجِعَهَا كُلَّهَا فِي الْأَصْلِ إِلَى جَوْهَرٍ وَاحِدٍ وَهُوَ التُّرَابُ، وَمِنَ التُّرَابِ تَدَرَّجَتْ هَذِهِ الْأَحْوَالُ. فَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللهَ مَسَحَ ظَهْرَ آدَمَ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّتَهُ مَعْنًى وَاحِدٌ فِي الْأَصْلِ إِلَّا أَنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَسَحَ ظَهْرَ آدَمَ فِي الْخَبَرِ عَنِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمَسْحُهُ عَزَّ وَجَلَّ ظَهْرَ آدَمَ وَاسْتِخْرَاجُ ذُرِّيَّتِهِ مِنْهُ مَسْحٌ لِظُهُورِ ذُرِّيَّتِهِ، وَاسْتِخْرَاجُ ذُرِّيَّاتِهِمْ مِنْ ظُهُورِهِمْ- كَمَا ذَكَرَ تَعَالَى-؛ لِأَنَّا قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ جَمِيعَ ذُرِّيَّةِ آدَمَ لَمْ يَكُونُوا مَنْ صُلْبِهِ، لَكِنَّ لَمَّا كَانَ الطَّبَقُ الْأَوَّلُ مِنْ صُلْبِهِ، ثُمَّ الثَّانِي مِنْ صَلْبِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ الثَّالِثُ مِنْ صَلْبِ الثَّانِي جَازَ أَنْ يُنْسَبَ ذَلِكَ كُلُّهُ إِلَى ظَهْرِ آدَمَ؛ لِأَنَّهُمْ فَرْعُهُ وَهُوَ أَصْلُهُمْ، وَكَمَا جَازَ أَنْ يَكُونَ مَا ذَكَرَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ اسْتَخْرَجَهُ مِنْ ظُهُورِ ذَرِّيَّةِ آدَمَ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ جَازَ أَنْ يَكُونَ مَا ذَكَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ اسْتَخْرَجَهُ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ مِنْ ظُهُورِ ذُرِّيَّتِهِ، إِذِ الْأَصْلُ وَالْفَرْعُ شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَفِيهِ أَيْضًا أَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَمَّا أَضَافَ الذَّرِّيَّةَ إِلَى آدَمَ فِي الْخَبَرِ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ عَنِ الذُّرِّيَّةِ وَعَنْ آدَمَ، كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} (26: 4) وَالْخَبَرُ فِي الظَّاهِرِ عَنِ الْأَعْنَاقِ وَالنَّعْتُ لِلْأَسْمَاءِ الْمَكْنِيَةِ فِيهَا، وَهُوَ مُضَافٌ إِلَيْهَا كَمَا كَانَ آدَمُ مُضَافًا إِلَيْهِ هُنَاكَ، وَلَيْسَتْ جَمِيعًا بِالْمَقْصُودِينَ فِي الظَّاهِرِ بِالْخَبَرِ، وَلَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: {خَاضِعِينَ} لِلْأَعْنَاقِ؛ لِأَنَّ وَجْهَ جَمْعِهَا خَاضِعَاتٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَتَشْرِقُ بِالْقَوْلِ الَّذِي قَدْ أَذَعْتُهُ ** كَمَا شَرِقَتْ صَدْرُ الْقَنَاةِ مِنَ الدَّمِ

فَالصَّدْرُ مُذَكَّرٌ وَقَوْلُهُ شَرِقَ أُنِّثَ لِإِضَافَةِ الصَّدْرِ إِلَى الْقَنَاةِ. اهـ.